وقفت اليوم على نافذة غرفتنا ، أملاً في الشعور بالراحة وقفت أشاهد الناس، الكل يمشي آلياً وترى أحدهم لا يعرف وجهته ولكنه يسير علّه يستقر في مرتع الراحة والطمأنينة المجهول، رأيت الطيور ومداعبة الرياح لها، ترى الطير يفتح جناحيه فقط بينما تتولى الرياح مهمة طيرانه، صوت الرياح وهي تداعب أشرعة المنازل، ولكن تلك المداعبة لم تكن من النوع اللطيف بل كانت قويةً ومرعبةً، تلفت الألباب إليها وكأنها تنطق :" سبحوا ربكم، فأنا جندي من جنود الرحمن، إدعوه لكي لا يتحول خيري لكم ضرراً عليكم، إدعوه أن أكون عليكم رياحاً لا ريحاً"، فسبحان الله
لفت انتباهي كثيراً تلك الحمائم التي وقفت على "خُشّة" صغيرة يملكها صاحب الحمائم، تتهافت على التقاط الحَب، معظمئهن أرضت شهيتها وشبعت، أما اثنتين كانت حالتهما مختلفة ربما لانهما تبدوان الأصغر سناً، ما تلبث تلك الحمامتين أن تصل الحَبة، وتفتح فيها لالتهامها، حتى تقذف الريح تلك الحَبة بعيداً.
إحدى تلك الحمامتين ذهبت بعيداً عن منطقة الصراع بين الحمامة الأخرى والريح على الحَبة، واكتفت بشرب الماء، ولكن تلك الأخرى البيضاء الرائعة لم تيأس، بقيت تدور وتدور، وتمشي من ناحية إلى أخرى حتى تلاحق الحَبة، حتى تلتقطها وتستر بها جوعها ولا تشعر من حولها بهَمِها، فلطالما حلمت تلك الحمامة بتلك الحَبة أو الحَبات التي قد تشعرها بالراحة والاكتفاء، تلك الحمامة رغم صغر سنها ولكنها لم تذق طعم الحَب يوماً، كنت دائماً أرى صاحبها يكتفي بدق الخبز ليصبح فتاتاً تقتات منه الحمائم، وفي مرات نادرة الحصول كان صاحبها يتكرم على حيواناته الأليفة بأن يلقي لها الحَب مرة كل شهر أو شهرين
أعجبتني تلك الحمامة بالذات، ليس لمظهرها فلم يكن المظهر يعني لي شيئاً بقدر الجوهر، ولكن لأنها لم تتوانى عن الركض وراء الحَبة التي حلمت بها، حتى وصلت لها أخيراً، نظرت حولها ملياً خافت أن يأخذها غيرها، فتلك الحَبة تمثل الثروة العظمى والحلم المتبدد لها، فالحمامة ابتداءً من تلك اللحظة قد ترضي رغبتها وتجيب على تساؤلاتها وتفاؤلاتها :
-يا ترى ما طعم تلك الحَبة؟!
-هل سأشعر بشعورهم عندما أراهم جميعاً يتباهون بـ"نفخ ريشهم" بعد تناولهم تلك الحبوب؟!
-هل سيكون طعم الحَبة كما تخيلته دائماً؟!
تساؤلات كثيرة محاطة بهالةٍ من الريبة والوجس، جعلت تلك الحمامة تفكر طويلاً، وما انفكت أن تلتهم الحَبة، حتى جاءت إحدى الحمائم عابرة السبيل واخذت تلك الحَبة وأدخلتها جوفها، ربما شعرت تلك الحمامة البيضاء بالغضب وعدم الرضى عن النفس، ولكن قرارة نفسها أقنعتها بأن تلك الأزمة محلولة، وكل شيء "مقدر ومكتوب
ما لبثت شمس ذلك اليوم أن أفلت، حتى جاء صاحب الحمائم، ليدخلها إلى قفصها حتى الصباح، أدخلها بعجلٍ ثم أقفل الباب، أراد الولوج إلى بيته ولكنه فجأةً عاد وأخرج تلك الحمامة المسكينة ليتفقد قدميها وجسمها، فهي نحيفةٌ جداً وصغيرة جداً، ثم أقفل الباب مجدداً وذهب بعيداً
- ترى ما السبب؟، ما الخطب؟، ربما أخذها لانها لم تعد صالحةً للتربية كونها هزيلةً مسكينة
- هل تلك المرة ستكون الأخيرة لنظرتها إلى العالم الخارجي؟، ربما ستقتل أو تلقى لأحد القطط
ولكن حلمها لم يتحقق بعد، لم تذق طعم الحبوب التي اشتهتها دوماً ولم يكتب لها الله أن تأكل منها، أحسست بالارتباك لحال تلك الحمامة، هل ستلقى مصيرها المحتوم مبكراً؟!. ولكن المفاجأة، أن جارنا أخذ تلك الحمامة وفتح لها كيس الحبوب وجعلها تأكل حتى شبعت، ثم أخذت تتمشى و"تتغندر" وهي سعيدة بتلك الوجبة الدسمة.
يحق لها الآن أن تتباهى بين رفيقاتها، فمقدار الحَب الذي أكلته في المرة الأولى في حياتها لم يكن بمقدار تلك الحبيبات القليلة التي أكلتها رفيقاتها مجتمعةً، ربما تتمنى رفيقاتها الآن أنها صبرت وجاهدت حتى نالت كل ذلك العِز.
سبحان الذي زرع العطف في قلب ذلك الرجل تلك المرة، لأنه لم يسبق وأن عطف على إحدى تلك الحمائم، كان يطعم تلك الحمائم فتات الخبز المتحجر، ولكن تلك الحمامة بعزيمتها وصبرها واصرارها، نالت ما تريد بعد أمد بعيد.