*** الفصل الأول ***
في سجن( أورجون) ذي الحراسة العالية والمراقبة الشديدة ارتفعت أصوات المساجين في زنزاناتهم احتفالا بقدوم السجين الجديد .....
كان الصخب عاليا يصم الآذان صراخ ،وعويل شديد حول السجن الكئيب إلى غابة متوحشة، ارتفعت فيها أصوات جميع حيواناتها في وقت واحد.. سيمفونية حيوانية !!!
وكان الصخب يزداد كلما طلب منهم الحراس الهدوء ... وكأنهم مايسترو أشعث الشعر يمسك بقضيبه القصير يلوح به بجنون ....
-أهذا هو أشهر سجين؟!! ... أهذا هو القاتل الذي حاول اغتيال الرئيس؟ إنه ناعم وأشقر كعشيقتك (جسيكا) يا (دوج) .... ها ها ها ......
- لا يا( جيمس) إنه يشبه دمية باربي الناعمة....
- أصمتا أيها القردان التعيسان....
بنبرة حادة وغاضبة زمجر قائد المجموعة التي كانت تحيط بالسجين الجديد إحاطة السوار بالمعصم يتقدمها مدير السجن ....
تقدم قائد حرس السجن من المدير وقال له متوترا:
- سيدي ألازلت مصرا على أن يقيم السجين الجديد في الغرفة 13؟ أنت تعرف ما حدث فيها من أمور غريبة... وبسبب ذلك أغلقها المدير السابق.....
نظر إليه المدير شزرا وقال له:
-لا يهمني قرار المدير السابق ..أنصت إلي جيدا يا( فرانك) أنا لا يهمني هذا السجين ولو ذهب إ لى الجحيم ... هذا قرار اتخذه نائب الرئيس شخصيا وهو على علم بأمر
الغرفة13...أفهمتني فإن كنت لا تخشى على راتبك وعائلتك فأنا أخشى على راتبي وعائلتي ولا أريد البقاء كثيرا في قبو الجرذان هذا حتى تقاعدي .....
طأطأ قائد الحرس رأسه موافقا من دون اعتراض .. فقال له المدير :
- جيد لننه الأمر بسرعة إذن.....
سجن أورجون للسجناء الخطرين المحكوم عليهم بالأعمال الشاقة مدى الحياة و المحكوم عليهم بالإعدام ... يقع في مكان سري وينقل إليه السجين مخدرا حتى يجد نفسه
في زنزانته... الزيارة فيه ممنوعة فلا اتصال بالعلم الخارجي بأي وسيلة كانت لا رسائل ولا هواتف ... أما وسائل الترفيه فهي منعدمة كذلك فقد صمم هذا السجن كي
يكون جحيما أرضيا قبل الجحيم الحقيقي بعد الموت ... وهو مكون من غرفة للتحكم والمراقبة متطورة جدا مزودة بشاشات تعرض جميع السجناء في غرفهم التي زودت
بأجهزة تصوير مخفية بدقة عالية .... واسفل منها ثلاثة طوابق أرضية منعدمة الإضاءة الطبيعية و إنما هي مضاءة بالكهرباء ...وكل طابق مقسم إلى قسمين متقابلين ...
وكل قسم يحتوي عى عدد كبير من الزنزانات الضيقة ... كل زنزانة منها تضم سجينين بفراش بال وحمام وصحنين صدئين يقتلان الشهية !!!....
لا تزال مجموعة الحراس التي يتقدمها المدير تحث الخطى نحو الزنزانة 13 وقد حفت وغطت السجين الجديد كما تغطي وتحجب الأشجار الباسقة نبتة صغيرة وسطها....
أما السجين الجديد فلم يكثرت لما يجري حوله كأنه في عالم آخر بل اكتفى بمتابعة الحراس بهدوء ... بعد مدة من السير توقفوا أمام زنزانة مغطاة بستار تقدم أحد الحراس
فنزع الستار بسرعة ... ثم أمر المدير بفتحها ففتحت تلقائيا... فتراجع الحراس قليلا لكن المدير ثبت في مكانه ثم دخل الزنزانة ....
والسجين لا يزال خارجها ... بقي المدير برهة قصيرة من الزمن داخلها يتأملها .. ثم خرج منها مستغربا كل ما سمعه وقرأه عنها ... وطلب من السجين الدخول إلى
غرفته ... وقبل دخوله قال له المدير بكلام خافت لم يسمعه غيره مقتربا من أذنه :
-أنا لا أعرفك، ولست قاضيا كي أحكم عليك..... لكنني أرجو لك حظا سعيدا إن كنت بريئا ...
ثم نظر إليه نظرة أخيرة وطلب من قائد الحرس غلق الغرفة.........
**** تتمة****
وأخيرا دخل السجين الجديد إلى الغرفة التي تحوم حولها أساطير وقصص غريبة ومرعبة صيرتها أشهر زنزانة في الأرض... حتى أشرس المجرمين لا يتحدثون عنها
فضلا على أن يقيموا فيها و لو ثانية واحدة ..فهي أشد عليهم من الإعدام نفسه!إنها الرهبة من المجهول.. لكن لم يبد على ضيفها الجديد أدنى شعور بخوف أو فزع لا لأنه
شجاع بل لأنه ببساطة لا يؤمن بالأساطير إنما يؤمن بالحقائق الثابتة التي يدركها بحواسه أو بخبر العاقل الموثوق بنقله ... وهيهات أن يجد عاقلا في أورجون ! يخبره
بحقيقة الأمر فكل ما يشاع عن الغرفة تخمينات ورجم بالغيب لا يتناسق أوله بآخره..فما حدث فيها صار أرضا خصبة لكل متكهن بارع في الخيال ... لكنهم جميعا يتفقون
أن من دخل فيها ليلا لم يعثر عليه في الصباح!! ويسمع منها أصوات صاخبة بعد اختفائه و قهقات مدوية كأن الجدران والأرضية والسقف وكل ما في الغرفة يعلن فوزه
ومتعته بفريسته الجديدة ويشكر إدارة السجن على هذه الوجبة الطيبة اللذيذة... ويتمنى مثلها في المستقبل القريب . . وفجأة حطم هدوء المكان النسبي صوت أحد
المساجين في غرفة قريبة من زنزانة 13 :
-( دوج) هل تظن أنه سيختفي كالسابقين أنا راهنت على الغرفة ....
فأجابه صوت من زنزانة أسفل منه:
و أنا كذلك راهنت على الغرفة فهي دائما تفوز أنا لا أريد أن أفقد سجائري الثمينة في معركة محسوم أمرها ... ....
وارتفعت أصوات الرهان وكانت الأغلبية مع الغرفة ضد السجين ...
تبسم السجين ونطق بصوت مرتفع فسكت الجميع :
- اسمع يا( دوج) ستخسر سجائرك حتما أؤكد لك ذلك .. لست أرنب سباق أو طعم سنارة ...
فقال له( دوج ) مستهزئا:
وفر قوتك أيها البطل فعن قليل لن تجد لعابا تتكلم به ... ها ها ها ها ....
***** الفصل الثاني******
لأول مرة يحس السجين الجديد برهبة المكان بعد غلق الباب مباشرة..ماذا لو كان ما يقولونه حقا ... صحيح أن هذا السجن مرعب لكنه ليس مخيفا كقلعة نائية من
القرون الوسطى ،أو فندق مليئ بقصص القتل البشعة و أشباح الليل المجنونة .. سيطرت عليه هذه الأفكار قليلا لكنه طردها بقهقهة بينه وبين نفسه:
- أظنني إن استرسلت في التفكير في هذا الموضوع التافه، سأصدق كل ما يقولونه حتما ... تبا !!
وطرح جسمه المتعب على الفراش الوحيد في الغرفة الذي علته طبقة كثيفة من الغبار .. لم يفكر في تنظيفه فهذا لا يهم .....
كان المدير خارج مكتبه في غرفة المراقبة يراقب السجين الجديد عبر شاشة مقابلة وكانت الصورة واضحة جدا ..
- أتحتاج كوبا من القهوة سيدي المدير؟
قال أحد الحراس متملقا المدير الذي لم يتعود مشاهدته أبدا في غرفة المراقبة !
- نعم ، وليكن الكوب كبيرا فالليلة ستطول حتما.. ولا أريد أن يفوتني شيء ،أود أن أشاهد كل شيء بعيني في وقته ... ....
بدا السجين الجديد وهو ملقى على سرير الغرفة غارقا في أفكار كانت تراوده ... وقد وضع يديه تحت رأسه، وحدق بسقف الغرفة الذي كان متسخا ومغبرا ،وظهرت فيه
بقع متناثرة داكنة بسبب الرطوبة ،و قلة تعرض الغرفة للشمس ... منظر لا يبعث على التأمل !! أشاح بوجهه نحو الحائط
الذي عن يمينه بدا كأنه لوحة زيتية ... تعاقب عليها فنانون مبدعون من مختلف مدارس الرسم
وأطيافه.. الكلاسيكي والسريالي و التجريدي والمعاصر .. وبدون اسم!! من قال إن المجرمين غير
مبدعين!!... كان الحائط كأنه ساحة قتال كل شبر وسنتيمتر فيه مستغل بطريقة عجيبة، لا مجال
للتهاون في هذا هنا... فالحائط كان متنفسا لا يعلم قدره إلا من كان في حالة من كان يرسم عليه
ما تجود به قريحته الفنية ... والحقوق محفوظة فكل يضع توقيعه أسفل تحفته !! صور مختلفة
بشتى الأحجام والألوان!! صورة امرأة شابة شقراء.. ومنظر رائع للبحر فيه سفن صيد تحوم حولها
طيور النورس.. وصورة مروعة لجحيم ناري يسقط فيه السجن بأكمله... وصورة صغيرة لوجه طفولي
ملائكي تمعن فيه جيدا فقد ذكره بابنته (روزا) الجميلة ذات السبع سنوات.. اغرورقت عيناه
فسالت بعض الدموع على خده... أهي بخير وأمان الآن؟ كيف حالها بعد هذه المحنة ؟ هل تقوى
على تخطي هذا الامتحان النفسي الصعب دون أن يؤثر في نفسيتها و أعصابها؟ أسئلة كثيرة كان
تدور في ذهنه دون إجابة... وهذا ما زاد من شدتها!! المسكين إنه يتألم في صمت .......
***** تتمة *****
وبينما هو غارق في ذكرياته وحنينه لابنته، قطع صوت مزعج خلوته ...
- هيا أيتها الفتيات القبيحات إلى النوم ... سنطفئ ضوء المصابيح ...
فتعالت الأصوات من كل مكان ، وبعضهم أصدر أصواتا تشبه أصوات القرود !!!!
أخرج الحارس (براند) البدين المكلف بمعاينة الدور الأول هاتفه اللاسلكي وضغط
على زر التشغيل :
- غرفة المراقبة يمكنكم إطفاء النور في الدور الأول كل شيء على ما يرام ،سأصعد فورا ... انتهى .
،فرد عليه صوت من غرفة المراقبة :
- جيد لا تطل أيها البدين نحن في انتظارك كي نكمل اللعبة .....
وهكذا فعل الحارس الثاني المعاين للطابق الثاني وكذللك الثالث... فغرق السجن في ظلمة حالكة ....
لكن شاشات العرض لا زالت تعطي صورا واضحة عن المساجين وهم في زنزاناتهم ، فآلات التصوير
المخبأة جيدا مزودة بأنظمة تشغيل متطورة جدا تمكنها بالتصوير في مختلف الظروف...
قال قائد الحرس وهو يتقدم رويدا نحو كرسي المدير حاملا في يده هو الآخر كوبا كبيرا من القهوة الساخنة:
- سيدي يمكنك أن تذهب إلى بيتك وأنا سأتولى مراقبة السجين بنفسي ....
رد عليه المدير، وهو يرتشف قهوته الساخنة من كوبه الكبير:
-شكرا (فرانك) أنا متعود على السهر... وإن صدقنا الروايات السابقة فستكون ليلة فقط !!! أليس كذلك ؟
- بلى سيدي .. وعن قريب جدا ...
وأحضر كرسيا و جلس بجنب المدير يراقبان السجين الجديد معا ....
- صدر صوت من الزنزانة المقابلة :
-هاي (دوج) كيف الأخبار ؟ هل من جديد ؟
زنزانة (دوج) ملاصقة للزنزانة 13 ...
- لا ليس بعد .. الفريسة لا تزال حية ...
***** تتمة ****
لم يجد بحث المدير والحراس شيئا ، فقد كان مضيعة للوقت فقط!! لا ثلمة في الحائط ولا الأرضية ..
ولا أثر للعدو الخفي ... فقد قلبوا الغرفة رأسا على قلب فتشوا كل شبر فيها ... والنتيجة هي أن
السجين اختفى، ولم يترك دليلا على الوجهة التي ذهب إليها !!!
ركل المدير السرير برجله غاضبا وقال:
- تبا !! كيف اختفى ؟ لقد كان أمام أنظارنا...
أعطاه أحد الحراس صورة صغيرة جدا لوجه طفلة جميلة ، كانت مختفية داخل السرير، وسقطت منه بسبب ركلة المدير ....
حملق فيها المدير طويلا دون كلام ، ثم قال بصرامة :
- سنبحث عن السجين المفقود ، ونرجعه ولو كان في الجحيم !!!!!
منذ أن اتهم السجين الجديد باغتيال الرئيس ظلما ، وكأن لعنة أو لعنات أ صابته في حياته ....
كل شيء تغير .. لم يعد كالسابق ، وهل على وجه الأرض تهمة ألعن من تهمة اغتيال رئيس ولو كان فرعون زمانه !!!!
استجواب تلو استجواب .... تعذيب و إكراه كي يقر بأنه هو من حاول اغتيال الرئيس في محاولة فاشلة .....
لم تقض عليه ، لكنه في حالة غيبوبة في غرفة العناية المركزة منذ أيام ... وهو يصارع الموت فقد استقرت رصاصة قاتلة في صدره ،
ولحسن حظه أخطأت قلبه بمسافة قليلة جدا ... لكنها مؤثرة...
بعد استسلامه عن كره للأذرع الخفية التي كانت تجذبه بقوة ظن السجين أنها النهاية !!
ويا لها من نهاية!! يموت وحيدا بعيدا عن ابنته و أحبائه ، في سجن قذر مع حثالة المجتمع ...
وبطريقة بشعة لم يتخلها أبدا في حياته...
جال في ذهنه ما كان يسمعه عن الموت ... عن حال الإنسان حال الموت ... عن النفق المظلم
الذي آخره مضاء ...عن ذكريات الإنسان في حال ا حتضاره ، تمر عليه كاملة بصور واضحة منذ ولادته
إلى زمن موته !! لكن شيئا من ذلك لم يحدث ... فهو يحس كأنه قسم إلى ذرات كثيرة تنتقل
بسرعة كبيرة في دوامة غير متناهية .. لا تراعي قوانين الزمان والمكان... لا شيء يمنعها من
الانتقال ... إدراكه لا يزال سليما ... ومن بعيد جدا يلوح ضوء خافت كأنه ضوء منارة تسترشد به
السفن من بعيد...
لا يزال سليما ... رغم كل شيئ .....
***** تتمة *****
لم يخطر ببال المدير حين تكلم بقوله :
- سنبحث عن السجين المفقود ، ونرجعه ولو كان في الجحيم !!!
أنه فتح على نفسه، وعلى غيره بابا من الرعب لا يمكن غلقه ، وأن بر الأمان الذي كان فيه
منعما مطمئنا آمنا قد خلفه وراء ظهره بعيدا !! فتلك الجملة التي خرجت من فمه في لحظة
حماس قوي غشي جسمه كله هي أشد من رصاصة قاتلة ... انطلقت ولا يمكن ردها !!!
ومن كان يظن هذا الموقف من المدير ؟ المدير الذي بدا في أول الأمر أنانيا ، لا يهمه السجين
الجديد ولو ذهب إلى الجحيم حين وصوله !!! والآن يريد إحضاره بأي ثمن من الجحيم !!!
أي شجاعة هذه ؟ أم بالأحرى أي جنون هذا؟ حقيقة النفس البشرية لا يمكن أن يفهمها إلا خالقها الله العظيم سبحانه .....
كان وقع جملة المدير الحماسية المجنونة على قائد الحرس والحراس الثلاثة الآخرين معه شديدا ... كوقع العاصفة ....
لمح المدير وجوههم التي صارت شاحبة جدا كأن الدم الذي كان يغذيها ، ويحييها قد تبخر من هول الأمر !!!
فخاطبهم بنبرة فيها شيء من الحزن :
- أعلم أن ما قلته خطير للغاية ، حتى أشجع الرجال يجد في نفسه شيئا بعد سماعه ، لكنني أقول لكم مجددا
من يرد أن يبحث معي على السجين المفقود منكم ، فليحسم أمره الآن ، لأني حسمت أمري
ولن أتراجع عن قراري .. ولن أجبر أحدكم على هذا الأمر ، فالخيار لكم ... طأطأ الجميع رؤوسهم،
وسكتوا ... كان الجواب واضحا أشد من التصريح به ... عندها قال المدير لقائد الحرس :
- ( فرانك) اصعد مع الحراس ، وأغلق الزنزانة سأبقى فيها ... ولو كانت هذه الغرفة تأخد إلى الجحيم
فسأذهب إليها مسرورا ...
وابتسم ابتسامة تدعو للبكاء لا للفرح ...
- هيا أسرعوا لا وقت لدينا ...
نظر إليه (فرانك) قائد الحرس ولم يستطع أن يتكلم ...
ومع إصرار المدير فمحاولة ثنيه عن اختياره اللعين هذا ستكون غير مجدية . رد بعنف قضبان
الزنزانة وقال له مودعا :
- ليحمك الرب سيدي .... وليكن الحظ معك !!!
***** تتمة*****
لا يزال السجين بل الأصح ذراته المتناهية في الصغر يدور في دوامة تقوده للمجهول...كأنها سرب
من السردين الأزرق اللذيذ يتحرك بتناغم عجيب ، كسمكة كبيرة ... سرعتها تتزايد شيئا فشيئا ..
لا أصوات ، ولا مرئيات ، ولا أذواق .... إنه العدم والفراغ ... لكن هذا التنقل يشعر الذرات بالراحة ..
لا مشقة فيه كأنواع السفر الأخرى ، ولو كانت في أفخم مركوب !!
لا يمنكها أن تتوقف ،أو أن تنقص من حركتها أو أن تميل يمينا أو يسارا ... هي تدور و كأن شيئا
قويا يجذبها إليه ، المحطة النهائية ... التي باتت قريبة جدا ، ازدادت سرعة الذرات ...
بدأت تلتقط بعض الأصوات المشوشة ... وبعض الصور التي تمر عليها بسرعة فائقة فلا تسطيع
أن تحدد ملامحها... كأن عدا تنازليا انطلق ... اقتربت نهاية الدوامة ... ازدادت الأصوات حدة ، وصار
الفراغ مضاء بضوء قوي يعمي البصر ... انجذبت الذرات نحو بعضها ، والتحمت مجددا ... وفجأة
سمع ارتطام عنيف... معلنا نهاية السفر الغريب !!!
ارتطم جسم السجين الذي عاد كما كان عليه قبل مغادرة الزنزانة بأرضية صلبة ... وانغلقت الفتحة
التي سقط منها، وصدر صوت كأزيز الرعد ، تطايرت شرارات كهربائية متعددة الألوان لكن السجين
لم يحس بشيء فقد كان في شبه غيبوبة ... كان مجردا من الثياب ، وجسمه محاط بغشاء رقيق
شفاف ولزج أشبه بالكيس الأمنيوتي السلوي عند الجنين ... وكأنه ولد من جديد بجسم كبير !!!
ولذالك سقط برأسه أولا ، ثم باقي أعضائه ... لكنه لم يبك ، ولسوء حظه لم تكن أم حنونة
تستقبله، في دفء العائلة الكبيرة!!
انبعج الغشاء ، فسال منه سائل كريه الرائحة ... وبصورة لا إرادية شرع السجين يتنفس بصعوبة،
ملأ الهواء الجديد صدره ... لم يتعود عليه بعد، دقات قلبه تتزايد ... أذناه التقطتا بعض الأصوات
البعيدة ... عيناه لازالتا مغمضتين ، لكنهما تحسان بضوء المكان ينعكس على الجفون ... كان
منكمشا على نفسه ، ركبتاه ملتصقتان بيديه .. المسكين كان في وضع لا يحسد عليه !!!!
المكان الذي سقط فيه غرفة كبيرة دائرية ، جدرانها من حجر صلب جدا ، وفي أعلاها فتحات مربعة
ينفذ من خلالها الهواء والضوء ... سقفها عال مقبب ، رطبة نوعا ما ، وخالية من أي شيء !!!
بدأت الحياة تدب في جسمه شيئا فشيا ... حرك ببطئ أصابع يديه ، ثم رجليه ، ومد جسمه
المنكمش... أراد أن يفتح عينيه لكنه لم يستطع ، فالجفون ملتصقة بشيء أشبه بالرمص كثيف،
شرع يزيله بأصابعه ، وتمكن من إزالته، عيناه لم تتعودا سريعا على الضوء ،كشخص كان في
مكان مظلم ثم خرج للنور ... لم يدم هذا الحال طويلا ، فقد تمكن أخيرا من الرؤية ...
وليته ما رأى !!!
*** تتمة ***
رأى جسمه مجردا من الثياب ، تنبعث منه رائحة كريهة ، كرائحة الجثث المتعفنة ... أراد أن يتقيأ
لكنه لم يستطع ... ياللهول .. منظر مقرف ، ورائحة مقيتة في مكان مجهول ... لا شك أن خلف
هذه الجدران السميكة الجحيم الذي طالما هددوه به!!! وهو يتهيأ له الآن في غرفة الانتظار هذه ، لكن دوره لم يحن بعد .....
فجأة رأى جدار الغرفة المستديرة الحجري ينفتح فيه باب مصدرا صريرا قويا ، تردد صداه في تجويف
الغرفة ، كاد يفجر طبلة أذنبه ... سرى في الغرفة نسيم بارد ... اقشعر منه جسم السجين
فتراجع للخلف مذعورا ... كان الباب كبيرا يدخل عملاقا !!! التصق بالحائط لا مجال للتراجع ،
ولا مفر من القدر !! ... ألقيت إليه خرقتان باليتان ، و أغلق الباب مجددا ... تسمر في مكانه ..
رجله لا تقوى على المشي كأنها مخدرة ... لم يطق الانتظا ر،فهرول جهة الخرقتين التقطهما بسرعة ،
ورجع إلى مكانه الآمن!!! لم يدر كيف يلبسهما ، فالخياط الذي فصلهما أعدهما لوحش صغير ربما !!!
ستر بالأولى نصفه العلوي ،و بالثانية نصفه السفلي، فهو برغم الذي مر به....
والذي هو فيه لم يفقد إنسانيته ، ولا كرامته !!! كالفرسان يلبسون أجمل ما عندهم قبل ملاقاة الموت .....
بدأ العرق يتصبب من المدير ، وهو وحده في الزنزانة 13... رغم أن الجو بارد !! كحالة محتضر يرشح
جبينه عرقا وهو ينتظر الموت .... بنبرة غاضبة قال قائد الحرس (فرانك) :
- ما يقوم به المدير انتحار !!!
لم يجبه أحد من الحراس ، فكلهم يوافقونه الرأي ، وهم مستغربون جدا كيف يضحي
المدير بنفسه من أجل حثالة !!! تسمروا جميعا أمام شاشة الزنزانة 13 ، بأعصاب مشدودة
وتركيز كبير ... كأنهم يشاهدون مباراة نهائي كأس العالم في دقائقها الأخيرة ، وفريفهم مهزوم
يبحث عن التعادل بأي طريقة !!!
أرجع (فرانك) شريط التسجيل للوراء قليلا كي يتمكنوا من رؤية ما حدث للسجين المفقود ...
فرأوه، وهو ينجذب من القضبان ، ويسحب أرضا ، ثم ظهرت فجأة فتحة بالجدار ، ابتلعته واختفت
بنفس السرعة التي ظهرت بها ... ثم أصدرت الزنزانة أصواتا مدوية ، وقهقهات النصر !!
مستهزئة بهم ككل مرة !!!
- لن أترك هذه الغرفة اللعينة تستهزئ بنا مرة أخرى ..
قال قائد الحرس ( فرانك) وهو يقوم من كرسيه ، ويتجه خارج غرفة المراقبة بسرعة :
- سنرجع المدير ، ولن نتركه ينتحر !!
أجاب الحراس الثلاثة بصوت واحد :
- أجل سيدي لن نتركه ينتحر ...
نزلوا بسرعة إلى الغرفة 13 كي يخرجوا المدير منها ، تحت وابل من الشتائم والتعليقات السخيفة
من المساجين المستيقظين ... قطعوا المسافة في وقت قصير جدا ، فحياة المدير مهددة ...
ولا يريدون الانهزام مجددا من طرف الزنزانة اللعينة ... لكن مجهودهم ضاع سدى ، فقد اختفى
المدير !!! وعلت قهقهات النصر مجددا !!!
**** تتمة ***
استشاط قائد الحرس (فرانك) غضبا على الزنزانة 13 ،فلم يتمالك أعصابه ، وشرع يمطرها بوابل
من الشتائم القبيحة.... و يشتم كذلك السجن القذر ... والمسجونين ... ، هذا السيل العارم من
السب واللعن لم يشف غليله ، ففتح نار بندقيته على الغرفة في جميع الاتجاهات ، وهو يصرخ
بأعلى صوته .... لم يجرؤ أحد من المسجونين المشاغبين على التعليق أو السخرية خوفا من
عاصفة قائد الحرس أن تصيبهم !!! بل اكتفوا بالسماع والمشاهدة للعرض السينمائي الحربي
المباشر فقط !!!
في هذه الأثناء وفي العالم الآخر كان السجين يقبع وحيدا في زنزانته الجديدة ... مستندا على
الحائط ... لا أكل ولا ماء... تحوم في ذهنه أفكار قاتمة السواد عن مصيره ... لا يمكنه دفعها ...
فهي ترواده في كل حين ... كظل ثقيل يصحبك في كل وقت !!! ولا تستطيع الفكاك منه ...
تمكن الإرهاق من جسده ، وبدأ النعاس يداعب عيونه ... لكنه كان يقاوم ذلك ، فهو لا يريد أن يؤخد
على حين غرة ... يريد أن يكون حيا مستيقظا حينما يأتيه القدر المجهول !!! وهو محق في ذلك ...
فقرر القيام والمشي قليلا لعله يدفع هذا النعاس ... وأخذ يذرع الغرفة جيئة وذهابا
حتى تعب من المشي الممل ... فاستند مجددا على الحائط الآمن ... منتظرا شيئا ما يحدث ...
بالفعل لم يطل انتظاره، فقد بدأ الحائط يهتز، وكذلك الأرضية ، لم يدر ما يفعل فقام فزعا مبتعدا
عن الحائط، وجال ببصره في الغرفة كلها وهو يدور في مكانه دون حراك ... ازدادات حدة الاهتزازات
كأنه زلزال قوي ... جثا على ركبتيه ، ووضع يديه على رأسه ، فقد كان السقف يهتز بشدة كذلك..
وبسرعة فائقة ظهرت فتحة كبيرة في الحائط الحجري الصلب ، تتطاير منها شرارات كهربائية كثيرة
مختلفة الألوان ... وكان صوت قوي يقترب منها شيئا فشيئا، وكأنها تريد أن تلقي شيئا ...
لم يستطع السجين النظر إليها مباشرة ، فقد كانت عيناه مغلقتين لانبهارهما بقوة الضوء الصادر
منها .... ثم ألقت حمولتها محدثة دويا في المكان ، واختفت بنفس السرعة التي ظهرت بها ...
سكنت الغرفة وتوقفت الاهتزازات المرعبة ... فتح عينيه فرأى جسدا مجردا مغلفا بكيس شفاف
لزج ... عندها علم كيف جاء إلى هنا !!!
كان منظر الشيئ الملفوف في كيسه الشفاف اللزج مقرفا ، ورائحته كريهة ... لكن السجين لم
يزعجه ذلك لأنه عثر أخيرا على رفيق يؤانس وحشته ، ويخفف عليه هول الأمر ، فكما يقال : إذا
عمت خفت !! هرول إليه وسحبه إلى وسط الغرفة ، فهو لا يزال فاقدا للوعي ... قطع بشغف
الكيس اللزج ... فانبهر وأصابته الدهشة مما رأى ..
-مدير السجن !!! هذا أمر غريب كيف وصل إلى هنا؟
لا بد أن في الأمر خطأ ما ... أو أنني أحلم ...
غمغم السجين في نفسه ......
وهو يستغرب كل شيء يحدث له من بداية اتهامه باغتيال الرئيس إلى هذا الوقت ...
لكن انفتاح باب الغرفة مجددا قطع حديثه العقيم مع نفسه ، فتراجع مسرعا للخلف تاركا جسد
المدير وحده .... ومن ظلام خارج الغرفة ألقيت مجددا خرقتان باليتان ، ملفوف فيهما شيء مبهم..
و أغلق الباب مجددا ... ما أحدث دويا في الغرفة الهادئة....
**** تتمة ****
رفع السجين الخرقتين ، فوجد بداخلهما شيئا ، حل الرباط الذي يربطهما ، فسقط الشيء المخبأ
أرضا... التقطه السجين والغرابة بادية على وجهه ....
- ما هذا الشيء ياترى ؟ وما الغرض من إلقائه إليهما ؟
أهو يؤكل ؟ أم ماذا؟ كان عبارة عن شيء دائري لونه غريب ... لم يصادفه في حياته ...
ثقيل إلى حد ما ، قد يوزن كيلوغرامين ربما .. رائحته طيبة ... تركه جانبا مؤقتا ، واتجه إلى المدير
الذي بدأ يحدث له مثلما حدث للسجين من قبل ... و ألبسه الخرقتين الباليتين .... فصارا كأنهما
رجلان من أهل العصر الحجري في كهفهما المغلق !!!
فتح المدير عينيه ، فرأى السجين ... فابتسم ، ثم استلقى على الأرض ... وهو يقول بصوت
لا يكاد يسمع لضعفه :
- شكرا لك يا إلاهي ...
وبدأ يتحسس جسمه ، ينظر هل وصل كاملا أم لا !!
بعد رحلة ذراته العجيبة في النفق اللامتناهي...
- سيدي المدير أنت بخير لا تقلق .. قال له السجين مطمئنا إياه ...
- أين نحن ؟
- لست أدري ؟
قص عليه السجين كيفية مجيئهما للغرفة عبر الفتحة ... وذكر له أمر الباب والخرقتين.....
- وما ذلك الشيء ؟
قال المدير وهو ينظر إليه بحذر ...
رد السجين :
- شيء رمي لنا مع الخرقتين ،ولست أدري ما هو ... لكنني أظنه طعاما .... ولا رغبة لي في تناوله ......
تعجب منه المدير ، وقال له :
- ينبغي أن نأكل ، كي نستعيد طاقتنا سنكون بحاجة لها....
على كل حال سأجربها أنا أولا ....
- ذق شيئا قليلا منها فقط سيدي المدير إن كنت مصرا على ذلك ...
قال السجين، وهو يترقب ما سوف يحدث ... قال له المدير :
- نادني ( مايك) فقط من فضلك ....
فقال له السجين مبتسما لأنهما في عالم لا تنفع فيه الأسماء:
- وأنا ( ستيفن).....
**** تتمة ****
نظر المدير ( مايك) للشيء الغريب الذي ينوي حقا أكله ، ثم بدأ ينقر ه بأصابعه ،فقال للسجين
( ستيفن ) الذي كان بمقربة منه :
- لم يصدر صوتا !! أليس هذا غريبا !!
رمقه ( ستيفن ) لبرهة ، وقال له :
- كل شيء غريب هنا يا سيدي المدير عفوا يا ( مايك)!! من الأفضل لك أن تدعه مكانه ...
- تبا ! لا يوجد حتى فأر صغير نجرب عليه هذا الشيء بدلا عنا ...
قال (مايك) ... فضحك (ستيفن) :
- حتى الفئران تهاب هذا المكان يا صديقي!! هي لا توجد إلا في عالمنا المليء بالقاذورات الشهية ...
رفعه ( مايك)، ثم طرحة بقوة على الأرض، فانقسم إلى جزئين متساويين تماما !!!
جلس كل واحد منهما بجنب القسم المقابل له.. كان كل قسم يحتوي على كرات صغيرة متلاصقة
وألوانها مختلفة ، نزع (مايك) كرة صغيرة خضراء اللون ممتلئة بسائل لزج بداخلها ... قربها من
فمه، وقال ل (ستيفن ) :
- حان موعد الحقيقة ...
أغمض عينيه، وسرطها بسرعة ...
وعينا ( ستيفن) محدقة به ككاميرا رقمية تصور كل لحظة ببطء شديد... بحركة بهلوانية مسك (مايك) بطنه وهو
يصرخ، ويتلوى أرضا ...
- اللعينة إنها مسمومة !! لا تذق منها (ستيفن)..
وسقط مغشيا عليه ، تحول ( ستيفن ) بسرعة جهة (مايك) وقد بدا على وجهه فزع شديد... أخذ يحركه ، لكنه جثة
هامدة ، اقترب من وجهه أكثر كي يرى هل يزال يتنفس أم لا ؟ عندها صرخ في وجهه (مايك) ، وهو يضحك :
- ( ستيفن) أنقذني ....
- كيف كان تمثيلي ؟ ألست رائعا؟ هيا كل يارجل إنها رائعة !!!
- كل يا(ستيفن) إنها لذيذة ... بل ألذ شيء أكلته في حياتي !!
ابتسم (ستيفن ) والتقط كرة صغيرة برتقالية ، وابتلعها بسرعة ...
... وكأنه يبتلع قرصا من الدواء على كره... كاد يشرق بسببها، نظر إليه ( مايك) بشغف ، وهو ينتظر جوابا :
- هيا قل كيف طعمها؟
لم يجبه (ستيفن ) بالكلمات بل أخذ كمية من الكرات اللذيذة ، ورماها في فمه دفعة واحدة !!!
أخيرا شيء لذيذ في هذه الورطة ....
استند الرجلان بظهريهما على الحائط ، وأخذا يمضيان وقتهما في أكل الكرات الصغيرة الحلوة...
ويتجاذبان أطراف الحديث، وكأنهما صديقان حميمان منذ زمن بعيد ... وكأن شيئا غريبا مرعبا لم يحدث لهما !!!
قال (ستيفن )، وهو يلوك كرة ف فمه :
- (مايك) أنت لم تخبرني كيف وصلت إلى هنا ؟
اعتدل (مايك) في جلسته ، ومسح شعر رأسه بيده اليمنى ، ثم أخبره بالتفاصيل حتى وصوله للزنزانة13 .....
وبعدما ركل السرير برجله، وهو في قمة غضبه سقطت منه صورة ... ثم سكت قليلا، وهو يرى ردة الفعل في وجه ( ستيفن) .....
- هل وجدت الصورة ؟
- نعم ، وبعدما نظرت فيها عزمت على مساعدتك ، وإحضارك ولو من الجحيم ..... ولقد أحضرتها معي كي أعطيك إياها ....
لكن أنا آسف، فقد فقدت مني أثناء الانتقال إلى هنا كما تعلم ....
- شكرا يا (مايك) ... لن أنسى لك هذا الجميل ما حييت ...
وطأطأ (ستيفن) رأسه وهو يفكر في أمر ابنته ( روزا ) مجددا .... لكن هذه المرة ليس وحيدا ، بل مع صديق قل أن يجد مثله في هذا الوجود.....
وكما يقال :
- يكفي أن يحبك قلب واحد كي تعيش..........
***** تتمة ****
بدأ الضوء المبعث في الغرفة من النوافذ العلوية المربعة يتناقص شيئا فشيئا ، ويحل محله الظلام ..
و السجينان مستندان على الحائط ، وقد شبعا أكلا من الكرات اللذيذة ... و النعاس يداعب جفونهما
التي لم تكتحل بلذة النوم منذ ساعات أو أيام أو شهور ... فهما لا يعلمان بالضبط مدة الزمن
المنصرمة ... قال (مايك) وهو يتثاءب :
-(ستيفن) لا بد أن نأخد قسطا من النوم كي نرتاح ، ونجدد نشاطنا ...
نظر إليه (ستيفن ) بنظرة فاترة، وهو يجيبه :
- نعم ، ولكن ....
- ولكن ماذا؟
قال ( مايك) بعينين نصف مغمضتين ...
- يجب ألا ننام في وقت واحد، نحن لا ندري ما الذي سوف يحدث ... فلينم أحدنا قليلا ..، ويبقى الثاني مستيقظا للحراسة ...
- حسنا ، سأنام أنا أولا ...قال (مايك)
وتوسد ذراعه ، وأخلد للنوم الباكر ... بعدما غرقت الغرفة في ظلمة حالكة ....
بقي (ستيفن) مستيقظا فترة من الزمن ... لكن هدوء الغرفة التام ، وظلمتها ، وشخير (مايك)
بصوت خفيض نوعا ما ، كل هذا عجل بهزيمة (ستيفن) الحارس ، وتسلل جنود النعاس الأقوياء
لقلعة رأسه ، ورفعوا راية النوم اللذيذ عاليا في أعلى أبراجها، فاستسلم للنوم العميق.......
نام الاثنان بعد تعب وعناء ... وكانت نومة لذيذة بحق .. خالية من أي شيء لا أحلام ولا كوابيس،
بل نوم مريح وفقط ...
وفي الصباح بعدما طلعت الشمس ، وأضاءت أشعتها الصفراء الذهبية الغرفة ...و منحتها شيئا من
الدفء .. فتح الباب الكبير فجأة ... مصدرا كالعادة دويا قويا ينبعث صداه في الغرفة الفارغة ...
هب السجينان من نومها مذعورين ، وأعينهما محدقة بالباب ... من غير كلام ... وكأن شيئا ما
يريد إرهابهما نفسيا ... وكان له ذلك فقد تمكن منهما الخوف .. الخوف من المجهول الخفي ...
وقد جرباه من قبل في الزنزانة 13...
كان صوت قوي خارج الغرفة يقترب منهما ... لم يتبينا ما هو ... ثم دخل عليهم ما كان ينتظرونه...
**** تتمة ***
دلف للغرفة وحشان ضخمان ... كأنهما توأم حقيقي فهما متشابهان تماما في كل شيء...
أشبه بغوريلا متوحش منقرض منذ قرون .... جسم طويل يزيد على المترين يمشي على
قدمين ... بنيته قوية وعريض الكتفين ... يغطي جسمه بالكامل شعر أسود داكن كثيف.... بوجه
مخيف أسود يحتوي على عينين متسعتين يعلوهما حاجبان كثيفان ... بجبهة ضيقة .. وبلا رقبة ..
رعب حي !!! كل واحد منهما يحمل في يده الضخمة المكتنزة قفصا صغيرا خشبيا ...
يتقدم هذين الوحشين هيكل عظمي صغير بطول قزم !! يمشي ببطئ وهما يتبعانه ... كان صوت
عظامه المضطربة يبعث موجات من الفزع الخالص ... لا شحم يكسوه ولا لحم ... كأنه لعبة خشبية
يحركها فنان مخفي من وراء ستار ... لكن كانت له عينان جاحظتان ملتصقتان في وجهه تشعان
بوهج أحمر مخيف...
في كل قدم يخطوها الهيكل العظمي القزم كان قلب السجينين يكاد ينخلع من مكانه ، ويتركهما
لمصيرهما المظلم ... التصقا كل منهما بصاحبه مستندين على الجدار ...
- توقف الهيكل العظمي ، وقال مخاطبا الوحشين بلغة فهمها السجينين لسوء حظهما:
- فريستان من الدم الحار مجددا !! ...
ورفع يده اليمنى العظمية ،وأشار بها نحو (مايك) فانجذب بقوة نحوه،
ثم جثا على ركبتيه من غير مقاومة ... وكأن مغناطيسا قويا سحبه !!! ،وكذللك فعل
ب (ستيفن) الذي انجذب بدوره والتصق ب(مايك) وهو جاث على ركبتيه ... بدأ الهيكل العظمي
بجس كل منهما بيده في ذراعيه ، وبطنه ، وفخذيه ... والوحشان يرقبان ما يجري ....
ثم استدار مبتسما إليهما قائلا بفمه المرعب :
- سيكون المزاد مثيرا الليلة !!! هيا احملاهما .......
**** تتمة ***
تقدم الوحشان نحو (ستيفن) و(مايك) المشلولين ، فتحا القفصين ، ورموهما وهما ينظران إليهما
بنظرة مخيفة ... انكمش كل منهما في سجنه الجديد !!!! دون اعتراض أو مقاومة .... بجسم مخدر
تماما و وجه شاحب كالثلج!! وكأنهما عصفورين صغيرين لا حول لهما ولا قوة ... قد فقدا كل شهية
للتغريد أو الحركة !!!
خرجا من الغرفة الدائرية ،فانغلق الباب الكبير بقوة .. كانت خطواتهم متثاقلة في ممر مظلم تماما ،
يتقدمهم الهيكل العظمي ، وهو يصدر بعض الأصوات كأنها صفير .. يبدو عليه أنه سعيد ببضاعته.
كان يعرف طريقه جيدا عبر الممرات الضيقة المظلمة ، متاهة الرعب!!! يحلم بمثلها أصحاب مدن
الملاهي ، فلو كانت عندهم لدرت عليهم مالا وفيرا ....
من بعيد ظهر ضوء ساطع معلنا عن نهاية المتاهة المظلمة ... أصيب (مايك) و(ستيفن) بدوار
شبيه بدوار البحر ، فقد كان قفصاهما يتحركان يمينا وشمالا كقارب صغير تتلاعب به الأمواج
العاتية ... وأخيرا ظهر الفضاء الطلق بهوائه العليل !!! فقد كانت المتاهة المرعبة تحت الأرض ،
وممراتها متصاعدة لولبية ... لم يشعر الهيكل العظمي بتعب ، فقد غمره حماس شديد ...
أما الوحشان الضخمان بوزنهما الرهيب ، فقد كانا شبيهين بصخرتين عظميتين تتحركان ....
رميا القفصين أرضا من التعب ... واستلقيا على ظهريهما ، فأحدثا هزة أرضية !!!
ارتطم القفصان بعنف على الأرض مما تسبب في إصابة (مايك) و(ستيفن ) ببعض الرضوض المؤلمة
في جسميها ... كاد أنف (مايك) أن يتهشم بسبب الارتطام العنيف وكأنه تلقى ضربة قاضية من
ملاكم قوي ... أما (ستيفن) لحسن حظه فقد حمى وجهه بيديه ... لكن كتفه انخلعت عن مكانها
فهي تؤلمه بشدة ...
- (ستيفن) هل أنت بخير؟
صرخ (مايك) وهو يمسك أنفه المتورم ...
- بخير ، لقد انخلعت كتفي ...
كان الهيكل العظمي بعيدا عنهما ، فلما رأى القفصين مطروحين أرضا ، وقد حدثت فيهما بعض
الشقوق .. وسمع السجينان يتألمان ... حنق على الوحشين المستلقين ، صرخ عليهما قائلا:
-أيها الغبيان انظرا ما فعلتما ؟ كدتما تقتلان الفريستين ...
وبحركة غريبة صوب كلتا يديه جهتهما ، رفع يديه ، فارتفع الوحشان عن الأرض كأنهما ريشة خفيفة ، رفعهما عاليا وهما يصرخان بشدة ..
سامحنا .. سامحنا ... سامحنا يا..... ثم صفق بيديه بقوة ، فاصطدما الوحشان بعضهما ببعض،
وسقطا مغشيا عليهما من فوق ... وقد أحدثا هزة أرضية أشد من الأولى !!!
كل هذا تحت أنظار السجينين وسمعهما ... المتألمان بصمت في قفصيهما ....
وفجأة سمع صوت قوي قريب يأتي من الناحية المقابلة ...
- هيا أيها الغبيان احملا الفريستين ...
- ألم تسمعا صوت البوق ؟ ستنطلق السفينة قريبا ...
كان الوحشان يترنحان كسكرانين ، وهما يمشيان ببطئ... ويشتمان الهيكل العظمي في نفسيهما .....خشية العقاب الشديد ...
كان المكان الذي يتواجدون فيه عبارة عن جزيرة صغيرة جدا ... جرداء لا شجر فيها ولا حجر ...
علا صوت البوق مجددا .... - هيا أيها الأحمقان لا وقت لدينا .... أسرعا وإلا تركونا في هذه الجزيرة اللعينة لشهر آخر !!!
صرخ الهيكل العظمي، وهو يتجه جهة السفينة الراسية قريبا منهم ...
**** تتمة ****
لم تكن الجزيرة الجرداء كبيرة ... ففي وقت قصير وصلوا للسفينة التي كانت راسية منذ فترة
بانتظارهم ... تشبه إلى حد كبير سفن (الفايكنج) ...طولها تقريبا ثلاثون مترا وعرضها خمسة
أمتار ... وككل سفن (الفايكنج) فإن هيكل هذه السفينة متراكب الألواح ، أي أن الألواح الخشبية
التي يتألف منها يركب بعضها فوق بعض.. ولها شراع مربع مثبت على صار يزيد ارتفاعه على
عشرة أمتار ... وهي تحمل ثلاثين مجدافا على كل جانب من جانبيها ...كما أن لها مجذاف
تشغيل بالقرب من المؤخرة ... وترفع راية سوداء غريبة الشكل ترفرف مع الرياح بلا رسوم
أو أشكال ...
من سطح السفينة ظهر وحش مخيف الظاهر عليه أنه هو قائد السفينة ، أشبه بفهد جسمه
برتقالي شاحب عليه بقع سود ... وجهه مستدير عليه ندوب ... وأذناه طويلتان... بلا ذيل،ويمشي
على قدمين ... ويصرخ على مساعديه .. وهم مزيج من بعض الهياكل العظمية الغريبة ، و حيوانات
صغيرة جسمها مخطط كحمار الوحش بالأسود والأبيض تعمل بنشاط...
نظر الفهد جهة المجموعة المتقدمة ببطئ وقال بنبرة غاضبة :
- أين كنتم يا (كربتيس) ؟
- لقد تأخرنا كثيرا ... ستدفع ثمن تأخيرك ...
لوح له الهيكل العظمي بيده ، وقال له مشيرا للوحشين :
-هذان الغبيان هما سبب تأخري دائما ... وإذا تحصلت على ثمن وفير ، فسأشتري وحشين
آخرين صغيرين ، وأبيع هذين الثقيلين ...
ها ها ها ... ضحك الفهد وهو يمد يده للهيكل العظمي ، ويصعده على متن السفينة ...
***** تتمة ****
صعد الهيكل العظمي في سلم صغير ، وأمر الوحشين أن يحررا السجينين من قفصيهما ، ففعلا .
ثم أمرهما بالرجوع إلى متاهة الرعب ،فلن يتأخر في المقاطعة طويلا ... فرحا بذلك ، وعادا أدراجهما
بسرعة ... كي يستمتعا بوقت فراغهما دون رقابة (كريبتس) الهيكل العظمي فهو ينغص عليهما أوقاتهما ،
ولا يتركهما يلهوان بحرية ... فهو بغيض وحقير ومرعب !!!
صعد (مايك) و(ستيفن ) على متن السفينة الكبيرة ، وهما لا يزالان يتألمان ... نظر إليهما الفهد
من الأسفل إلى الأعلى متفحصا ثم قال :
- بضاعة جيدة يا (كريبتس) !! لا تقل لي إنهما من اصطياد الزنزانة 13 ....
أومأ إليه الهيكل العظمي برأسه وهو يبتسم ابتسامة خبيثة ...
-صيد وفير ... سأجني به الليلة ثروة!!!
نادى الفهد على أحد الملاحة من الحيوانات المخططة كحمار الوحش ، وقال له:
- خذهما إلى مكانهما مع بقية الفرائس.. وأجلس كل واحد منهما قرب مجدافه سننطلق الآن ...
لم يصدق (مايك) ولا (ستيفن) ما يحدث لهما ، وما يشاهدان ... مجموعة كبيرة من المخلوقات
الغريبة مصطفة على جانبي السفينة ، كل واحد منها أمام مجداف ضخم ... وكأنهم عبيد سود
يقتادون قهرا بعد اختطافهم من وطنهم الأصلي لخدمة أسيادهم القساة في قارة أخرى !!!
كانت السفينة ممتلئة بفرائس مختلفة ... كائنات غريبة كتلك التي نشاهدها في أفلام حرب النجوم وغيرها ....
جال (ستيفن) بنظره في جانبي السفيتة وفجأة ركزت عينه على مخلوق غريب
قاعد في الجانب الأيمن يمسك طرف مجداف .... بحركة سريعة جذب (مايك) الذي كان ينظر إلى
الجهة اليسرى من خرقته كي ينظر معه المخلوق الغريب... رآه (مايك) وأمعن فيه النظر ... سكت
كل منهما برهة من الزمن ... من أثر الصدمة ...
-( ستيفن) إنها إمرأة !!!
أومأ له ( ستيفن) برأسه ، فلم يستطع الكلام ، وكأنه أبكم ... بل اكتفى بالتحديق فيها .... لكن متعة التحديق لم تدم
طويلا، فقد دفعه الحيوان المخطط كحمار الوحش من ظهره آمرا إياه بالتقدم ... تألم (ستيفن)
فقد ضربه على كتفه المخلوع ... لكن لحسن حظه فقد أجلس الحيوان (مايك) في الجهة اليسرى
وأجلسه هو في الجهة اليمنى خلف المخلوق الغريب المحبب... خلف المرأة !!! ، وكأنه سمعه
وهو يرجو في نفسه أن يجلس خلفها ... ربما حدث ذلك ، ولا يهم كيف حدث ...
ارتفع فجأة صوت البوق العظيم معلنا بداية الرحلة ... وكخلية نحل لزم كل واحد مكانه وعمله
المكلف به ... كانت السماء صافية زرقاء ، تبشر برحلة ممتعة .. مع هبوب متوسط للرياح لا يشكل
أي خطر ... رفعت المرساة ، فانطلقت السفينة تشق طريقها في البحر الواسع في أمان ......
****** تتمة *****
شرع كل واحد من الفرائس الغريبة في تحريك مجدافه بقوة ، وإلا تعرض لضربة موجعة من سوط
أحد الهياكل العظمية المهتمة بشؤون التجديف ... كل جانب من السفينة يحرسه هيكل عظمي،
ويعمل على ألا يتوقف التجديف إلا إذا طلب منهم قائد السفينة الفهد المرعب...
-كل شيء على ما يرام ... سنصل في وقتنا المحدد إلى المقاطعة ..قال الفهد وهو يخاطب
(كريبتس) الذي كان منشغلا بمراقبة بضاعته (مايك) و(ستيفن) ...
- يجدر بك ذلك أيها الفهد وإلا ....
- وإلا ماذا؟
- أنت تعلم ما يمكنني فعله ...
- تتركنني وتبحر مع منافسي اللدود الغبي ...
- ربما !!
- لكنك لن تفعل ، أليس كذلك ؟
- دعنا نكمل الرحلة ، وعند الوصول أجيبك ....
- حسنا ، أنت عنيد يا (كريبتس) ...
- لكن ثمن رحلتي مع بضاعتي مغر ... وهذا هو المهم ....
- ها ها ها ها ، لن أتغلب عليك ...
- ما رأيك ببعض قطرات دم حارة ؟
- لا أمانع إذا كانت جديدة ..
- ومتى كنت أقدم لك دما قديما يا صديقي ؟ ....
-تفضل ..
- شكرا هذا لطف منك يا فهد ...
أنت بحق تعرف كيف تخدم زبائنك ، أهنئك...
رفع فهد محارته التي فيها الدم قائلا :- في صحتك ... فأجابه (كريبتس): - في صحتك ....
و أصدر قهقهات غريبة بفمه الهيكلي الفارغ !!!