من حكايات الجد
قال لي جدي رحمه الله ، أنه كان هناك رجل يمشي ويمشي الخير بين يديه ، قدم يوما إلى ربوة في الصحراء جدباء ؛ فحفر بئرا للماء ، وأحاطها بسياج من النخيل ، وزرع كثيرا من أعواد القمح والذرة حول العين . وبنى لنفسه كوخا خشبيا وسط الربوة ،وبرجا للحمام بين أحواض القمح والذرة . اخضرت الواحة . واتسعت حقول القمح والذرة حتى غطت الربوة والسهل . علا النخيل وأثمر . وتكاثر الحمام. ومات الرجل ولم يمت الخير . ومرت سنوات .
وذات مساء . أغار فأرٌ شرسٌ على الواحة ، هدَّم الأعشاش ، سرق البيض ، قتَّل الصغار ، وروَّع الكبار ، تكررت هجمات الفار، ففكر الحمام كيف يتقي شر الغازي ؛ فرأى أن يشتري قطا صغيرا ، ويربيه في الواحة ، فإذا كبر دافع عن الواحة - التي احتضنته صغيراً - وتحمل الحمام غارات الفأر إلى أن كبر القط . ولكن القط لم يتحرك لمنع الفأر الغازي . فتكلم معه الحمام وهو يقرب له الطعام –الذي يقتطعه من طعامه وطعام صغاره – أنه قد آن الأوان ليمنع الفأر من الاستمرار في اعتدائه على الواحة ، وأثار حميَّته ، وذكَّره بفضل الواحة عليه ؛ فوعده أن يحمي له واحته !.
وفي المساء جاء الفأر. فهجم عليه القط وكاد أن يمسك به . ولكنه اختبأ خلف باب الكوخ , حاول القط أن يدخل خلفه . وعندها جاء صوت الفأر وهو يقول بلهجة الناصح : أيها القط هل نعقد اتفاقا فيه صالحك وصالحي ؟ تعقل ولا تكن أبله ! ماذا ستستفيد من قتلي ؟ لو قتلتني سيستغني عنك الحمام . ماء القط موافقا .
_ سوف أهرب إلى حدود الواحة فاتبعني لنكمل حديثنا بعيدا عن سكَّان الواحة .
تظاهر القط بأنه يطارده إلى أن وصلا إلى حدود الواحة . وهناك قال الفأر بلهجة ماكرة : سوف أُغير كل ليلة على الواحة ؛فدعني حتى أنال عشائي القليل ، ثم اجرِ نحوي وكأنك تطاردني ، وسوف أهرب وكأني أخشاك . وعندها سوف يتمسك بك الحمام ؛ لأنك تحمي الديار. اتفقنا ؟
مرت أسابيع ، والفأر يغير كل ليلة على الواحة ؛ فيطارده القط . والحمام يحمسه . صدَّق القط مع مرور الأيام أنه حامي الديار وطارد الأشرار . وأخذه الغرور . فصار يطلب من الحمام مزيدا من الطعام ، ويأمر ، وينهى كما لو كان أسد وابن أسد . بل و أصبح يتبرم من الحبِّ الذي يُقَدمُ له ويطلب بيضا ، وأفراخا من أفراخ الحمام لطعامه . فأطاعه بعض الحمام - خوفا منه أو رغبة في بقائه علَّه يقتل الفأر الغازي - . زاد جبروته فطلب منهم أن يقيم في الكوخ القديم ، وكان الحمام يحترم هذا الكوخ كثيرا ويقدسه . استمرت غارات الفأر، ومطاردات القط الفاشلة له . وبدأ صبر الحمام ينفذ ، وغضبه من سلوك القط يزداد . وبدأ الهمس حول الشك في علاقة بين القط و الفأر . وتأكد من هذه العلاقة لما راقب القط أثناء مطارداته الكسولة مع الفأر ، وتلك النظرات الماكرة المتبادلة . اجتمع الحمام ودارت بينه مناقشات حول جدوى بقاء القط . وحال الكوخ الخشبي الذي ملأته القاذورات بعد سكن القط فيه . وفي الصباح نقل الحمام أعشاشه إلى أعالي النخيل . فلما لم يجد القط طعامه ماء صارخا و مهددا طالبا الطعام . فلم يرد عليه الحمام . فتعجب . ولكنه كسول لم يعتد البحث لنفسه عن طعام فظل يموء إلى أن غلبه النعاس . وفي وقت الغداء . نادي على الحمام طالبا الغداء ، والماء، وانتظر ؛ لم يعره الحمام انتباها ؛ فاغتاظ وساوره القلق ولكنه كسول تمدد ونام . وفي المساء . جاء الفأر يبحث عن صيد العشاء فوجد البرج خاليا. فراح يسأل القط . دخل في الخفاء إلى الكوخ ، وجد القط نائما ، مادا يديه أمامه . ناداه فلم يجبه . اقترب يهزه ليصحوا ، وفجأة لطمه القط على وجهه فخدشه ، وأسال منه الدم ، وبسرعة انقض عليه فجعل رأسه بين أنيابه . صرخ الفأر: مالك أنا صديقك الفأر.
ضغط القط أكثر على رقبته وهو يقول : حين أجوع أأكل ولدي .
وفي الصباح حمل القط رأس الفأر في فمه وذهب إلى النخيل ووقف يلوح برأس الفأر وينادي : أيها الحمام لقد قتلت الفأر. استمر في توسلاته طوال اليوم ولا مجيب . يومان وهو وسط النخيل يتوسل ولا مجيب . وفي صباح اليوم الثالث وُجِدَ غريقا في عين الماء
حازم